الأحكام الفقهية الخاصة بالمسجد الأقصى (1)
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة أما بعد:
فإن المسجد الأقصى المبارك يختص بعدد من الأحكام الفقهية عند الفقهاء، بحثوها في أماكن متفرقة من كتب الفقه: في أبواب الطهارة، والصلاة، والاعتكاف، والنذر، والحج، وغيرها، وقد جمعناها في هذا البحث مع المقارنة والترجيح ليسهل الاطلاع عليها، ومعرفتها والإحاطة بها، ليكون المسلم على علم بها لتطبيقها، خاصة أنها تتعلق بمسجد له قداسته واحترامه، ويقع حالياً تحت نير الاحتلال، وفيما يلي بيان هذه الأحكام:
أولاً: استحباب زيارته وشد الرحل إليه:
فقد انعقد إجماع العلماء على استحباب زيارة المسجد الأقصى للعبادة المشروعة فيه كالصلاة والدعاء، والذكر وقراءة القرآن الكريم، والاعتكاف والصوم1، والحجة لهذا:
أ- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى))2 أي لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيره3، ولا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلاّ هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به4.
ب- ما ورد عن ميمونة بنت سعد - رضي الله عنها - ويقال بنت سعيد مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا نبي الله افتنا في بيت المقدس؟ قال: ((أرض المحشر والمنشر، إيتوه فصلوا فيه))5.
ثانياً: ما ينبغي أن يراعى أثناء الزيارة للمسجد الأقصى:
أ- الزيارة مشروعة في كل الأوقات للمسجد الأقصى، ولكنه لا ينبغي أن يؤتى المسجد للزيارة في الأوقات التي يقصّدها الضُلاّل مثل وقت عيد النحر، فإن كثيراً منهم يسافرون إليه ليقفوا هناك، وكذلك السفر إليه من أجل التعريف - أي الوقوف بساحته مثل عرفة -، معتقداً أن هذا قربة، فهذا محرم بلا ريب، وينبغي أن لا يكثر سوادهم6.
ومن هنا كره الإمام مالك - رحمه الله تعالى - فيما نقل عنه المجيء إلى بيت المقدس؛ وكان يقصد بذلك تخصيص المجيء إلى بيت المقدس في وقت معين كوقت الحج الذي يذهب إليه جماعة فيقفون بساحته يوم عرفة تشبهاً بالوقوف بعرفة، وينحرون الأضاحي تشبهاً بنحر الحجاج في منى، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل هذا لا في قباء، ولا في قبور الشهداء وأهل البقيع ولا غيرهم7.
ب- يكره لمن زار المسجد الأقصى أن يتمسح أو يقبل أي بناء من أبنيته، أو أن يطوف به، وما ورد من أن بعض الناس كانوا يطوفون أو يقفون في ساحة الأقصى يوم عرفة فهو من البدع التي لا تجوز، لأنّ الطواف لا يكون إلاّ بالبيت الحرام فقط8.
ج- لا يوجد في بيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى، لكن إذا زار قبور الموتى، وسلم عليهم، وترحم عليهم كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلّم أصحابه فحسن، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون...))9.
ثالثاً: استحباب إهداء المسجد الأقصى زيتاً يسرج فيه:
اتفق جمهور العلماء على أنه يستحب لمن لم يقدر على زيارة المسجد الأقصى المبارك أن يهدي له زيت10، والحجة لهذا: ما ورد عن ميمونة بنت سعد - رضي الله عنها - ويقال بنت سعيد مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: قلت يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس؟ قال: ((أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره)) قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه؟ قال: ((فتهدي له زيتاً يسرج فيه، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه))11، ويقصد بذلك أيضاً تقديم العون المادي للإسهام في إمارة أو إصلاح أوضاعه.
رابعاً: استحباب الصلاة في المسجد الأقصى المبارك؛ لفضل الصلاة فيه على غيره من المساجد إلاّ المسجد الحرام والمسجد النبوي، ومما يختص به المسجد الأقصى المبارك من الأحكام: أن الصلاة فيه تفضل الصلاة في غيره من المساجد إلاّ المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالصلاة فيهما أفضل من الصلاة فيه، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم12، والحجة لهذا:
1- ما ورد عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم-: ((الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة))13.
2- ما ورد عن ميمونة بنت سعد - رضي الله عنها - قالت: قلت يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس، قال: ((أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه بألف صلاة في غيره...))14 وإسناد الحديث صحيح، ورجاله ثقات كما سبق ذكره.
3- ما ورد عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيهما أفضل أمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو...))15.
فهذه أحاديث ثلاثة صحيحة تثبت الفضل للصلاة في مسجد بيت المقدس، إلاّ أنها اختلفت في مقدار فضل هذه الصلاة، فبعضها جعلها بألف صلاة، وأخرى بخمسمائة، وأخرى بمئتين وخمسين صلاة، وكلها أحاديث صحيحة كما جزم بذلك الهيثمي وغيره كما ظهر في تخريجها، ويمكن الجمع بينها بأن يقال: بأن أفضلية الألف تكون للجماعة في المسجد، وأن غيرها لصلاة غير الجماعة16 لأن الأخذ بجميع الأدلة أفضل من طرح بعضها إذا صحت كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء17.
ويمكن أن يقال: بأن الخلاف الواقع بين الروايات في مقدار فضل الصلاة في المسجد الأقصى لا يؤثر على جوهر الموضوع، خصوصاً أن العدد لا مفهوم له كما هو مقرر في الأصول، وليس من الضروري أن يعرف المسلم مقدار الثواب الذي يناله بسبب الصلاة فيه، فإن مرده إلى الله - سبحانه -، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء18، ولهذا ينبغي على المسلم أن يحرص على شد الرحال إلى هذه المساجد الثلاثة لفضل الصلاة فيها، ولمضاعفتها.
وأما ما ورد من أن الصلاة في المسجد الأقصى أفضل من خمسين ألف صلاة في غيره من المساجد إلاّ المسجد الحرام، وهو ما ورد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة))19 فهو حديث ضعيف؛ لأن في إسناده أبا الخطاب الدمشقي وهو لا يعرف20، ورزيق - أبو عبدا لله الألهاني - فيه مقال، ولا يجوز الاحتجاج به إلاّ عند الوفاق21.
فهذه بعض الأحكام الفقهية الخاصة بالمسجد الأقصى، وسنكمل - بإذن الله - ما تبقى منها في مبحث لاحق، والله الموفق لكل خير، والدافع كل ضير، اللهم لا تحرمنا الأجر، وعجل لنا النصر، وارزقنا الصبر.
والحمد لله أولا وأخراً.