مذكراتي ومضات تشربها الحزن (1)

حينما وضعت أمامي تلك القارورة التي تحمل في جوفها "ماء الورد" .. كنت أكتب هذه الومضات ، وأنا أنظر لتلك القارورة فكأنما تلهمني أشياء وأشياء ..

إن ماء الورد له نكهة خاصة في حياتي .. وهو الذي يمنحني العبق التاريخي كلما رأيته أو قرأت عنه ، أحمل معه في ذاكرتي عند رؤيته في تلك القنينة نَفَسَ العزة ، وبَرْد اليقين ، وحرارة النّصْر ..


لم تكن هذه الومضات حينما أكتبها هنا سيرة ذاتية محضة .. لكنها محطات لمواقف عاشها العمر بكل أبعادها النفسية ..

فها أنا أكتبها ، لا لألهب بها النفوس وأستثير بها القرائح ، واستدر بها الدمع من مآقي تلك العيون التي أرهقتها مطارق الحزن ، ولا لأستعطف بها تلك القلوب القاسية التي ما فتئت أن تعنف أو تلوم أو تعاتب ...

لكني أكتبها ليقرؤوها كلمات ممزوجة بالدمع تجسدت "كومضات" عشتها كما تحكيها هذه الكلمات بعد عناءٍ من تمرد النفس عن تسطيرها ، وجموحها ، وتثاقلها ، وضعفها عن تصويرها ..

ولطالما هممت أن امتشق هذا القلم بعد أن أحدث نفسي ،التي حاولت جهدي أن أشدُها فلا تنقاد ، أدعوها فتتباطأ أملاً في أن أكتب تلك الخطرات من المعاني الجميلة قبل مغيبها لأتأسى بها لحظات ، فلا تلبث إلا أن تتلاشى ثم تغيب الدهر كله !!..


ثم استجدي الذاكرة لعلها تجود بها بعد ذلك بعد أن غابت تلك الخواطر بين احتدام الفكر وهمومه ، خواطر كانت تُجسد تاريخ إنسانٍ قد هَرِمَ صغيراً ، وشاخ طفلا ، ثم سأم الحياة وسئمته ، وشتمها وشتمته ..

إنها ومضات لقلبٍ هدَّته رحى السنين ، وقلمٌ أخفق حتى في تصوير آلامه .

لن تسعفني الكلمات .. ولا الأبيات .. ولا الجمل .. عن ما عرفته عن الحياة التي عشتها ، ويا لله ! يا لله !! كم هو الألم حين يستعصي الخاطر أن يكتب عن تلك الحياة .. حين يعلن إفلاسه من البوح في أن يترجم تلك الحياة ... أن يجسدها ...أن يشكلها كلمات تنضح فيها الأحداث والمواقف ..وتتحرك فيها المشاعر بقوة دافعة تستمد طاقتها من تلك الذكريات ..

فأي مأساة هي تلك المأساة حين لا أستطيع أن أكتب عن المأساة ، وأي همٍ يجتاح جوانح النفس حين يعجز قلمك أن يكتب ألماً يغني الجرح ...
أو شعراً ينشد المأتم ...
أو خواطر تكتب ترجمة لمعاني الذات البائسة ..

أكتب هذه الومضات بقلم طالما عطَّلته مهازل الحياة الجديبة ، ودواعي الإحباط الذي يقطن داخلي منذ أن عرفت أن للحياة معنى ..

أكتبها الآن ليقرأني الأحبة المقربون "ومضاتٍ" من حياةٍ كانت موشحةً بالسواد ، موشاةً بالحزن ، مطرزة بالأماني البعيدة !! ..

أكتبها الآن هنا أخيرًا .. لتعيش هذه الومضات حيةً في وجدان الأحبة ما حييت ، وتُخلد بعد موتي ما شاء الله أن تُخلد ..

عشت عمري الفاني ، وقد غالتني غوائل الدهر ، وتركتني كبقايا حطام بشري لم يزل متماسكاً بعض الشيء ، لا يقيم تماسك تلك البقايا المتهالكة إلا الثقة بوعد الله ، وبشائر المجاهدين في سبيله ، ودعاء أمي التي طفح الهَمُّ على محياها وألِفَه ...

إنّ في بُرديَّ جِسماً ناحِلاً لو تَوكأت عليه لانهدمْ

مزيد من التقدم
يسلمو